الأفكار العامة:
الحرية من أكثر المصطلحات خداعًا، وهي كما أصفها مصطلح منشوري.
الحرية مصطلح يستحضر في أحشائه فكرة الالتزام ولا يلغي الاعتبارات دينية أو أخلاقية أو اجتماعية..
الحرية تعبير فلسفي يشير بشكل أو بآخر إلى الرغبة في الاختيار والتصرف وفق شرعية مكفولة، وليس هدمًا لاعتبارات الانضباط، أو انعتاقًا أرعن من المسئولية.
في الثقافة العربية نجد الوعي بالحرية يقوم على أن المسئولية جزء من قيمة الاختيار.
يجعل الإسلام الحرية الحق الأول الملازم للإنسان بأصل إنسانيته.
وهذا الحق يمنحه الحرية في الاختيار الأكبر بين الإيمان أو الكفر.
إذا كانت العبودية نقيضًا للحرية فإن هناك مصطلحات تقابلها على الاتجاه الآخر، مثل الإباحية، والتحلل/ الانحلال، التمرد، التفلت/ الانفلات، وهي تفيد ممارسة الاختيار دون مراعاة للقيم الأخلاقية أو الضوابط العقلية والقانونية.
إذا كان القيد في الحرية ذاتيًّا وأخلاقيًّا، فإن قيد الإباحية كوني/ فيزيائي- وعضوي/ بيولوجي.
الإباحية- التفلت- الانحلال هجاءٌ للإنسانية، وهدمٌ همجيٌّ لمصطلح الحرية.
الحرّية
وغواية الشعر.. غواية الكتابة:
يوصف الشعراء بأنهم أمراء البيان ، لما يتمتعون به من قدرة باهرة على تطويع اللغة ، هذه القدرة تبلغ حدَّ السحر حين تنداح الكلمات إثر الكلمات لتحاصر القارئ بمنطقها فتقيم أمامه عالماً ينعم فيه أو يشقى به ، فإذا اضمحل سحر اللغة لم يجد القارئ أمامه سوى خليط من المشاعر المتدافعة التي لا يستطيع وصفها إلاّ بأن يجتر حالة الشعر السابقة، أو حالة لغوية مماثلة من السحر الحلال .
يمكن أن نأخذ من الشعر الجمال وعذوبة اللغة وألق الإحساس ، ولكن نغوى بغوايته إذا جعلنا منه مصدرا من مصادر الحقيقة ، حتى وإن نقل إلينا الصدق ، لأن لغة الشعر تسبح في بحر دلالي عائم تصعب محاكمته إلى المنطق الحكيم للغة ، الذي تؤسس عليه المعارف ، وتُتداول به بين الناس .
وقد أتحفنا الشاعر/ الكاتب إبراهيم طالع الألمعي بمقالته / بقصيدته : \"عن الحرية \" المنشورة في جريدة الوطن السعودية (في يوم الإثنين: 29/ محرم / 1422هـ ص24) ، حيث ( أعدم ) فيها ضمناً مصطلح \" الحرية \" دون محاكمة؟!! وذلك حين فَرَّغه من سلطته الفلسفية وزرع فيه معنى غريبا ، تنكره أول ما تنكره اللفظةُ نفسها ، فعل طالع كل ذلك ، وأكثر من ذلك ، فكان الخصم والحكم ، وشاهد الجرم الذي لم يقع ، ومنفذ الحكم .
يقول إبراهيم طالع الألمعي: \" كي أكون إنساناً فلست حراً!!! لا تتعب معي في البحث الأكاديمي عن معنى الحرية !! وهل هي المقيدة بحرية الآخرين ، أم إنها مطلقة ؟؟ كن حراً في فهمك الحرية فستجد أنها أولاً وأخيراً قيد !! …. لماذا نكذب على أنفسنا بعلمنا واختيارنا ؟ أتجرأ على الحضارة الإنسانية جمعاء متحدياً أن تثبت أن الحرية حقيقية ...\" كتب طالع موضوعه بلغة ما (تحت) الشعور ، أو بعبارة أقرب : بلغة الشعراء، فجاءت المقالة وإن كانت نثرا أقرب إلى منطق الشعر ، أو هي : بالمصطلح الفارابي : \" قول شعري \" ولو تحقق للمقالة عنصر الإيقاع لكانت قصيدة تضاف إلى نتاج الشاعر لا فكره ، على الرغم من أنه لا يستغرب من شاعر يتنفس شعرًا أن يبتلعه تيار الشعر .
وإذا تجاوزنا النبرة الغنائية في الموضوع الفلسفي (المتماهي شاعرية) إلى المنطق اللغوي تحديدا وجدنا الشاعر يستخدم ألفاظه في سياق ثأثيري يراد له نقل المشاعر بهالاتها الهلامية؛ كي تخلق عند المتلقي حالة وجدانية، وردة فعل عاطفية بالدرجة الأولى. لكنها لا تمنح القارئ أي بعد معرفي مؤسس، يستطيع من خلاله أن ينشئ تصورًا ذهنياً سوى تلك الحالة التي خلَّقتها [باللام المشددة تليها قاف] المقالة / القصيدة .
لقد وقف شاعرنا نثرًا أمام لفظة الحرية كما يقف أمام البحر أو الفضاء ليبحث لهما عن تفسير ؛ فلمَّا لم تكن ( الحرية ) شعراً : كانت كذباً على أنفسنا بعلمنا واختيارنا ، أو بوقاً لتطويع البشر؟!
اكتفى الشاعر بالعودة إلى ذاته ليمتحها : التجربة ، والقيمة، والمعنى , و لـيمحضها : الحكم بأحقية البقاء ، أو حتمية الفناء : جفافاً لا رِيًّا ، وجوعًا لا شبعاً …
فهم شاعرنا \" المصطلح \" بالمطلق ، فرده بالمطلق ، ثم تحدى الحضارات بالمطلق ، كَيَّفَ ( بتضعيف الياء مع فتحها ) الشاعر المعنى كما يشاء ، وساقه أرضًا بلا سماء . ولا يرفع مسغبة المصطلح إلا وصل جذوره بتاريخه ..
هل من الحكمة أن نشرط على الصائغ أن يبيعنا سبيكة ذهبية نقية، ثم نردها إليه ناقمين، لأننا قد وجدناها -كما شرطنا عليه- خالية من الشوائب؟! إلا أن تكون مغامرة لغوية نُسطر فيها موقفًا حماسياً جميلاً في باب ( الشاعرية ) باعتبارها دفقة عارمة ضد تجربة ( ما )، أو احتجاجاً محاكاً في لحظة سأم ٍلغرِّيدٍ ملأ الدنيا زهواً وغناءً .
يا سيدي الشاعر من أوهمك أن الحرية شيئاً مطلقاً حتى فُجعت كل هذة الفجيعة لَّما تبين لك أنها قيد ضمن قيد؟! إنها - يا سيدي - ككل شيء في الحياة محكوم بأصل الخلقة، الحياة نفسها ميلاد وموت ، بداية ونهاية.
المفهوم الفلسفي للحريّة:
ومع هذا يجب الاعتراف بأن ( الحرية ) من أكثر المصطلحات خداعاً، وهي كما أصفها مصطلح (منشوري / بللوري) تستطيع بكل كفاءة أن تمنح الناظر من كل اتجاه صفحة مستوية نقية شفافة، لكن ما إن يشرع المحايد في امتحان مقولةٍ سابقة حتى ينقلب إليه البصر خاسئًا وهو حسير.
الضوء- نفسه- تنثره في أكثر من اتجاه بمجرد ملامسته لسطحها الزجاجي الصقيل؛ مما يجعل إيجاد تعريف محدد لها أمراً في غاية الصعوبة، وإذا استحضرنا مقولة: \"سـابـيـر\" و\"وورف\" عن تكييف اللغة للعالم، والمعروفة بــالحتمية اللغوية) فإن طبيعة اللفظة نفسها هي التي تزيغ الأبصار، وتنصب المصطلح جسدًا بللوريًّا (منشوريًّا) لا يساعد كثيٍرًا على إيجاد تعريف واحد، بل إن ظهور المصطلح مرهون أساساً بالاختلاف، وتباين وجهات النظر وليس الاتفاق، إلا أنه يمكن (ترسيس( )_ بالراء_ RECONSTRUCTION) النظر إليها هنا على أساس الجامع العام حرصًا على مقاربة الفكرة التي تقوم عليها الحرية.
وهي بهذا الاعتبار تعد مصطلحًا محايدًا، بل مرغوبًا فيها من جميع المجتمعات والمستويات والأنظمة، فلا يوجد إنسان في العالم يدعي أنه يريد العبودية ويفضلها على الحرية، كما لا يوجد مجتمع مهما بالغ في احترام تقاليده يدعي أنه يصادرها أو يسلبها (على الأقل على المستوى النظري ).
أما السبب فهو أن ( الحرية ) مصطلح يستحضر في أحشائه فكرة الالتزام ولا يلغي الاعتبارات دينية أو أخلاقية أو اجتماعية…، بل يسعى لإيجاد صيغة توافقية مُثلى للمواءمة بين مساحة ملكية التصرف وحقوق الاختيار، وبين حقوق الآخرين والمصالح العامة التي يحكمها القانون، بحسب تصور كل كيان لذاته وأسباب وجوده وغايته.
فالحرية إذا: تعبير فلسفي يشير بشكل أو بآخر إلى: الرغبة في الاختيار والتصرف وفق شرعية مكفولة وليس هدما لاعتبارات الانضباط، أو انعتاقًا أرعنَ من المسئولية كما قد يُظن. لذلك قلت: إن المصطلح نفسه مصطلح محايد، أي: أنه يمكن أن يُعطى بُعده المقنن وفق المنظومة الـ(قيمية) والـ(تشريعية) المعتبرة في هذا القطر أو ذاك، أو بين المجتمعات المختلفة.
إن شرايين الحرية معبأة بدماء حارَّة ضختها وتضخها رؤى متباينة، ولكنها تُجمِع على: أن المسئولية جزء من قيمة الاختيار الذي تهبه الإنسانية؛ من أجل تحقيق وجود فاعل مثمر، وحركة مجتمعية متسقة، تضبط إيقاع المصالح المتقاطعة كما تفعل إشارات المرور؛ حين يكون من حقي ومن معي في الشارع العبور يتحتم على مرتادي الشوارع الأخرى التزم الوقوف.
الحريّة في الثقافة العربية:
وفي الثقافة العربية نجد هذا الوعي (كون الحرية = الاختيار+الالتزام) قائمًا على نحو واضح جدًّا، فمثلاً تقول العرب:
- \"تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها\".
- \"وعد الحرِّ دينٌ\".
فوجود الحرية تحجب الحَّرة من بعض أوجه الكسب، وتحتم عليها الاحتراس من المدنِّسات، كما إن حرِّية من قطع على نفسه وعداً لا تخوِّله الحق في الرُّجوع عن وعده بل تجعله واجباً مستحق الأداء متى حان وقته، وقدر عليه.
ولكون الحرية قدرة على الاختيار والتزاما به بعد ذلك، يؤكد الدين الإسلامي منحها لأتباعه وللإنسانية جميعاً، بل ويجعلها الحق الأول الملازم للإنسان؛ بأصل إنسانيته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
وهذا الحق يمنح الفرد بالضرورة الخيار الأكبر في الإيمان أو الكفر، وهو الشيء الذي لم يمنحه الله تبارك وتعالى للسماوات والأرض، على عظمهما؛ وهما أكبر من خلق الإنسان- كما نص على ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
أما في جانب الإنسان ( وما يلحق به ) فإنه تعالى يقول:
- {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
- {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}.
- {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}.
- { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
- {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.
- {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}.
ولكن الإنسان بعد أن يختار ويعمل يصبح مسئولاً أمام ربه ونفسه عن اختياره: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، و{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. ويصبح ملزماً تجاه الناس أيضاً لتتضح الأمور وتكتمل الحقوق . يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام:\"آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدَّث كذب ، وإذا أؤتمن خان\". فإنّ للإنسان ألا يعد، وله ألا يحدّث، وألا يقبل الأمانة، ولكنّه إذا ما وعد فإنه ملزم بالوفاء، وإذا ما حدّث فإنّ عليه أن يصدق في حديثه، وإذا ما قبل الأمانة فمن الواجب عليه حفظها وأداؤها إلى صاحبها....
مصطلحات أخرى تلتبس بالحريّة:
وإذا كانت العبودية نقيضاً للحرية فإن هنالك مصطلحات تنقضها، وتقابلها على الاتجاه الآخر، مثل: (الإباحية، التمرد، التفلت/الانفلات، التحلل/الانحلال) وهي ألفاظ تستعمل بثقل اصطلاحي مغاير للحرية، ومختلف فيما بينها أيضاً، ولكنها مصطلحات مقيتة، تفيد ممارسة الاختيار دون مراعاة للقيم والأخلاق، أو الضوابط العقلية أو الفكرية أو القانونية، أو أسس الاجتماع البشري؛ أو وبعبارة أخرى إنها تتجلى في كسر المتعارف عليه، ويحكمها النزوة والإمكانات الجسدية، والظرف المادية، وما تحقق من منجز تقني؛ أي: محكومة برغبات الفرد من جهة، والإمكانات من جهة أخرى، غير أن هذه المصطلحات غير محبوبة ولا محايدة، ترفضها المجتمعات، وتأباها الأنظمة، ويحاول العاقل دوما أن ينفيها عن نفسه، ولو مارسها في واقعه. فهي ذات دائرة أوسع لكن ليس لها ضابط قانوني أو أخلاقي، بل هي كذلك متمردة على كل ضابط ديني أو قيمي أو قانوني أو أخلاقي لذا هي مصطلحات غير محايدة، وغير مرغوب فيها. وإن كانت تختلف المجتمعات في تفسيرها وتحديد مجال عملها تجريدًا وسلوكًا...
وإذا كان قيد الحرية (ذاتيًّا وأخلاقيًّا) قبل كل شيء، فإن الإباحية ليس لقصور في طبيعة الإطلاق، لكن لطبيعة الارتهان بالضرورة للسنن الكونية والطبيعية، التي قدرها الله: نسبية لها – أيضاً- حدود لا يمكن تجاوزها:
فالإباحية لا يمكن- مثلاً - أن تتصور على قدر واحد لدى إنسان الكهوف كما يمكن أن تكون في مجتمع يجوب أفراده الفضاء، ويفيدون من الأقمار الصناعية والفضائيات، ويستعملون الحاسب، ويمارسون لحظياً التواصل وتسويق الأفكار والمنتوجات عبر شبكة عنكبوتية مترامية الأطراف بواسطة الكلمة والشاشة، وتنتقل المعلومة بين أفراده بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهذا يقرر أن الخبرة الإنسانية، والطاقة الجسدية، والإمكانات الماديّة المتوفرة جزء من محدّدات الإباحية.
والإنسان مهما بلغ من ادعاء التمرد والإباحية لا يستطيع أن يخرق قوانين الله التي وضعها في الأرض أو في جسده، يقول تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}، ومن ثمّ فإنّ قدرته على التمرد مهما بلغت، جدّ محدودة؛ لأنها مقيدة بالسنن البيولوجية في جسده وبالسنن الكونية الفيزيائية في الكون من حوله. وحتى حينما يبدو له أنه قادر على خرق هذه السنن في جسده أو في الكون الذي يتقلب فيه، فإن الواقع يقرر أنه محتاج إلى الاعتراف بهذه السنن أولاً، واستخدامها لممارسة ما به يظن أنه يخترقها ويتجاوزها، وهو على الحقيقة يدعمها ويرتهن لها..
كما إن الإنسان شاء أم أبى لا يستطيع مقاومة الصيرورة إلى ملاقاة الله، ولا مناص من ذلك؛ وفي القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية يرغَّب الإنسان عند المصيبة، التي تطيش لها الأحلام في الاعتراف بالعودة إلى الله والعبوديّة الحقيقية له، فيلهج بالقول البليغ الصادق: إنا لله وإنا إليه راجعون {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }، وقال عليه الصلاة والسلام: \"ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها. إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها...\" وهذا يقرر حتمية الرجوع إلى الله، شاء الإنسان أم أبى.
لهذا أستطيع أن أقول: الحرية في الإسلام، والحرية في اليهودية، والحرية في المسيحية، والحرية في الشرق، والحرية في الغرب، ومفهوم الحرية عند \"ميل\"، أو عند \"جون لوك\" أو \"ستيوارت\"، أو عند الفلاسفة العرب، أو عند الفقهاء.. إلخ مستحضرًا في الوقت ذاته اختلاف النظرة إلى هذه الحرية بحسب المنظومة التصورية، التي يزن بها كل فريق الأشياء ويحكمون عليها.
لكن لا أستطيع مثل ذلك مع مصطلح ( الإباحية ) التي تعد هجاء للإنسانية، وهدماً همجياً لمصطلح ( الحرية ) الذي لا يمكن فهمه إلا بتقييده، وليست (الإباحية) كما قد يظن بعض الناس نوعًا يندرج تحته، أو أنه يتسع ليتقاطع أو يتطابق معه. والكلام في هذا متشعب لا تتسع له هذه المقالة.
بقلم:
أحمد بن علي آل مريع
الحرية من أكثر المصطلحات خداعًا، وهي كما أصفها مصطلح منشوري.
الحرية مصطلح يستحضر في أحشائه فكرة الالتزام ولا يلغي الاعتبارات دينية أو أخلاقية أو اجتماعية..
الحرية تعبير فلسفي يشير بشكل أو بآخر إلى الرغبة في الاختيار والتصرف وفق شرعية مكفولة، وليس هدمًا لاعتبارات الانضباط، أو انعتاقًا أرعن من المسئولية.
في الثقافة العربية نجد الوعي بالحرية يقوم على أن المسئولية جزء من قيمة الاختيار.
يجعل الإسلام الحرية الحق الأول الملازم للإنسان بأصل إنسانيته.
وهذا الحق يمنحه الحرية في الاختيار الأكبر بين الإيمان أو الكفر.
إذا كانت العبودية نقيضًا للحرية فإن هناك مصطلحات تقابلها على الاتجاه الآخر، مثل الإباحية، والتحلل/ الانحلال، التمرد، التفلت/ الانفلات، وهي تفيد ممارسة الاختيار دون مراعاة للقيم الأخلاقية أو الضوابط العقلية والقانونية.
إذا كان القيد في الحرية ذاتيًّا وأخلاقيًّا، فإن قيد الإباحية كوني/ فيزيائي- وعضوي/ بيولوجي.
الإباحية- التفلت- الانحلال هجاءٌ للإنسانية، وهدمٌ همجيٌّ لمصطلح الحرية.
الحرّية
وغواية الشعر.. غواية الكتابة:
يوصف الشعراء بأنهم أمراء البيان ، لما يتمتعون به من قدرة باهرة على تطويع اللغة ، هذه القدرة تبلغ حدَّ السحر حين تنداح الكلمات إثر الكلمات لتحاصر القارئ بمنطقها فتقيم أمامه عالماً ينعم فيه أو يشقى به ، فإذا اضمحل سحر اللغة لم يجد القارئ أمامه سوى خليط من المشاعر المتدافعة التي لا يستطيع وصفها إلاّ بأن يجتر حالة الشعر السابقة، أو حالة لغوية مماثلة من السحر الحلال .
يمكن أن نأخذ من الشعر الجمال وعذوبة اللغة وألق الإحساس ، ولكن نغوى بغوايته إذا جعلنا منه مصدرا من مصادر الحقيقة ، حتى وإن نقل إلينا الصدق ، لأن لغة الشعر تسبح في بحر دلالي عائم تصعب محاكمته إلى المنطق الحكيم للغة ، الذي تؤسس عليه المعارف ، وتُتداول به بين الناس .
وقد أتحفنا الشاعر/ الكاتب إبراهيم طالع الألمعي بمقالته / بقصيدته : \"عن الحرية \" المنشورة في جريدة الوطن السعودية (في يوم الإثنين: 29/ محرم / 1422هـ ص24) ، حيث ( أعدم ) فيها ضمناً مصطلح \" الحرية \" دون محاكمة؟!! وذلك حين فَرَّغه من سلطته الفلسفية وزرع فيه معنى غريبا ، تنكره أول ما تنكره اللفظةُ نفسها ، فعل طالع كل ذلك ، وأكثر من ذلك ، فكان الخصم والحكم ، وشاهد الجرم الذي لم يقع ، ومنفذ الحكم .
يقول إبراهيم طالع الألمعي: \" كي أكون إنساناً فلست حراً!!! لا تتعب معي في البحث الأكاديمي عن معنى الحرية !! وهل هي المقيدة بحرية الآخرين ، أم إنها مطلقة ؟؟ كن حراً في فهمك الحرية فستجد أنها أولاً وأخيراً قيد !! …. لماذا نكذب على أنفسنا بعلمنا واختيارنا ؟ أتجرأ على الحضارة الإنسانية جمعاء متحدياً أن تثبت أن الحرية حقيقية ...\" كتب طالع موضوعه بلغة ما (تحت) الشعور ، أو بعبارة أقرب : بلغة الشعراء، فجاءت المقالة وإن كانت نثرا أقرب إلى منطق الشعر ، أو هي : بالمصطلح الفارابي : \" قول شعري \" ولو تحقق للمقالة عنصر الإيقاع لكانت قصيدة تضاف إلى نتاج الشاعر لا فكره ، على الرغم من أنه لا يستغرب من شاعر يتنفس شعرًا أن يبتلعه تيار الشعر .
وإذا تجاوزنا النبرة الغنائية في الموضوع الفلسفي (المتماهي شاعرية) إلى المنطق اللغوي تحديدا وجدنا الشاعر يستخدم ألفاظه في سياق ثأثيري يراد له نقل المشاعر بهالاتها الهلامية؛ كي تخلق عند المتلقي حالة وجدانية، وردة فعل عاطفية بالدرجة الأولى. لكنها لا تمنح القارئ أي بعد معرفي مؤسس، يستطيع من خلاله أن ينشئ تصورًا ذهنياً سوى تلك الحالة التي خلَّقتها [باللام المشددة تليها قاف] المقالة / القصيدة .
لقد وقف شاعرنا نثرًا أمام لفظة الحرية كما يقف أمام البحر أو الفضاء ليبحث لهما عن تفسير ؛ فلمَّا لم تكن ( الحرية ) شعراً : كانت كذباً على أنفسنا بعلمنا واختيارنا ، أو بوقاً لتطويع البشر؟!
اكتفى الشاعر بالعودة إلى ذاته ليمتحها : التجربة ، والقيمة، والمعنى , و لـيمحضها : الحكم بأحقية البقاء ، أو حتمية الفناء : جفافاً لا رِيًّا ، وجوعًا لا شبعاً …
فهم شاعرنا \" المصطلح \" بالمطلق ، فرده بالمطلق ، ثم تحدى الحضارات بالمطلق ، كَيَّفَ ( بتضعيف الياء مع فتحها ) الشاعر المعنى كما يشاء ، وساقه أرضًا بلا سماء . ولا يرفع مسغبة المصطلح إلا وصل جذوره بتاريخه ..
هل من الحكمة أن نشرط على الصائغ أن يبيعنا سبيكة ذهبية نقية، ثم نردها إليه ناقمين، لأننا قد وجدناها -كما شرطنا عليه- خالية من الشوائب؟! إلا أن تكون مغامرة لغوية نُسطر فيها موقفًا حماسياً جميلاً في باب ( الشاعرية ) باعتبارها دفقة عارمة ضد تجربة ( ما )، أو احتجاجاً محاكاً في لحظة سأم ٍلغرِّيدٍ ملأ الدنيا زهواً وغناءً .
يا سيدي الشاعر من أوهمك أن الحرية شيئاً مطلقاً حتى فُجعت كل هذة الفجيعة لَّما تبين لك أنها قيد ضمن قيد؟! إنها - يا سيدي - ككل شيء في الحياة محكوم بأصل الخلقة، الحياة نفسها ميلاد وموت ، بداية ونهاية.
المفهوم الفلسفي للحريّة:
ومع هذا يجب الاعتراف بأن ( الحرية ) من أكثر المصطلحات خداعاً، وهي كما أصفها مصطلح (منشوري / بللوري) تستطيع بكل كفاءة أن تمنح الناظر من كل اتجاه صفحة مستوية نقية شفافة، لكن ما إن يشرع المحايد في امتحان مقولةٍ سابقة حتى ينقلب إليه البصر خاسئًا وهو حسير.
الضوء- نفسه- تنثره في أكثر من اتجاه بمجرد ملامسته لسطحها الزجاجي الصقيل؛ مما يجعل إيجاد تعريف محدد لها أمراً في غاية الصعوبة، وإذا استحضرنا مقولة: \"سـابـيـر\" و\"وورف\" عن تكييف اللغة للعالم، والمعروفة بــالحتمية اللغوية) فإن طبيعة اللفظة نفسها هي التي تزيغ الأبصار، وتنصب المصطلح جسدًا بللوريًّا (منشوريًّا) لا يساعد كثيٍرًا على إيجاد تعريف واحد، بل إن ظهور المصطلح مرهون أساساً بالاختلاف، وتباين وجهات النظر وليس الاتفاق، إلا أنه يمكن (ترسيس( )_ بالراء_ RECONSTRUCTION) النظر إليها هنا على أساس الجامع العام حرصًا على مقاربة الفكرة التي تقوم عليها الحرية.
وهي بهذا الاعتبار تعد مصطلحًا محايدًا، بل مرغوبًا فيها من جميع المجتمعات والمستويات والأنظمة، فلا يوجد إنسان في العالم يدعي أنه يريد العبودية ويفضلها على الحرية، كما لا يوجد مجتمع مهما بالغ في احترام تقاليده يدعي أنه يصادرها أو يسلبها (على الأقل على المستوى النظري ).
أما السبب فهو أن ( الحرية ) مصطلح يستحضر في أحشائه فكرة الالتزام ولا يلغي الاعتبارات دينية أو أخلاقية أو اجتماعية…، بل يسعى لإيجاد صيغة توافقية مُثلى للمواءمة بين مساحة ملكية التصرف وحقوق الاختيار، وبين حقوق الآخرين والمصالح العامة التي يحكمها القانون، بحسب تصور كل كيان لذاته وأسباب وجوده وغايته.
فالحرية إذا: تعبير فلسفي يشير بشكل أو بآخر إلى: الرغبة في الاختيار والتصرف وفق شرعية مكفولة وليس هدما لاعتبارات الانضباط، أو انعتاقًا أرعنَ من المسئولية كما قد يُظن. لذلك قلت: إن المصطلح نفسه مصطلح محايد، أي: أنه يمكن أن يُعطى بُعده المقنن وفق المنظومة الـ(قيمية) والـ(تشريعية) المعتبرة في هذا القطر أو ذاك، أو بين المجتمعات المختلفة.
إن شرايين الحرية معبأة بدماء حارَّة ضختها وتضخها رؤى متباينة، ولكنها تُجمِع على: أن المسئولية جزء من قيمة الاختيار الذي تهبه الإنسانية؛ من أجل تحقيق وجود فاعل مثمر، وحركة مجتمعية متسقة، تضبط إيقاع المصالح المتقاطعة كما تفعل إشارات المرور؛ حين يكون من حقي ومن معي في الشارع العبور يتحتم على مرتادي الشوارع الأخرى التزم الوقوف.
الحريّة في الثقافة العربية:
وفي الثقافة العربية نجد هذا الوعي (كون الحرية = الاختيار+الالتزام) قائمًا على نحو واضح جدًّا، فمثلاً تقول العرب:
- \"تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها\".
- \"وعد الحرِّ دينٌ\".
فوجود الحرية تحجب الحَّرة من بعض أوجه الكسب، وتحتم عليها الاحتراس من المدنِّسات، كما إن حرِّية من قطع على نفسه وعداً لا تخوِّله الحق في الرُّجوع عن وعده بل تجعله واجباً مستحق الأداء متى حان وقته، وقدر عليه.
ولكون الحرية قدرة على الاختيار والتزاما به بعد ذلك، يؤكد الدين الإسلامي منحها لأتباعه وللإنسانية جميعاً، بل ويجعلها الحق الأول الملازم للإنسان؛ بأصل إنسانيته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
وهذا الحق يمنح الفرد بالضرورة الخيار الأكبر في الإيمان أو الكفر، وهو الشيء الذي لم يمنحه الله تبارك وتعالى للسماوات والأرض، على عظمهما؛ وهما أكبر من خلق الإنسان- كما نص على ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
أما في جانب الإنسان ( وما يلحق به ) فإنه تعالى يقول:
- {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
- {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}.
- {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}.
- { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
- {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.
- {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}.
ولكن الإنسان بعد أن يختار ويعمل يصبح مسئولاً أمام ربه ونفسه عن اختياره: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، و{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. ويصبح ملزماً تجاه الناس أيضاً لتتضح الأمور وتكتمل الحقوق . يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام:\"آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدَّث كذب ، وإذا أؤتمن خان\". فإنّ للإنسان ألا يعد، وله ألا يحدّث، وألا يقبل الأمانة، ولكنّه إذا ما وعد فإنه ملزم بالوفاء، وإذا ما حدّث فإنّ عليه أن يصدق في حديثه، وإذا ما قبل الأمانة فمن الواجب عليه حفظها وأداؤها إلى صاحبها....
مصطلحات أخرى تلتبس بالحريّة:
وإذا كانت العبودية نقيضاً للحرية فإن هنالك مصطلحات تنقضها، وتقابلها على الاتجاه الآخر، مثل: (الإباحية، التمرد، التفلت/الانفلات، التحلل/الانحلال) وهي ألفاظ تستعمل بثقل اصطلاحي مغاير للحرية، ومختلف فيما بينها أيضاً، ولكنها مصطلحات مقيتة، تفيد ممارسة الاختيار دون مراعاة للقيم والأخلاق، أو الضوابط العقلية أو الفكرية أو القانونية، أو أسس الاجتماع البشري؛ أو وبعبارة أخرى إنها تتجلى في كسر المتعارف عليه، ويحكمها النزوة والإمكانات الجسدية، والظرف المادية، وما تحقق من منجز تقني؛ أي: محكومة برغبات الفرد من جهة، والإمكانات من جهة أخرى، غير أن هذه المصطلحات غير محبوبة ولا محايدة، ترفضها المجتمعات، وتأباها الأنظمة، ويحاول العاقل دوما أن ينفيها عن نفسه، ولو مارسها في واقعه. فهي ذات دائرة أوسع لكن ليس لها ضابط قانوني أو أخلاقي، بل هي كذلك متمردة على كل ضابط ديني أو قيمي أو قانوني أو أخلاقي لذا هي مصطلحات غير محايدة، وغير مرغوب فيها. وإن كانت تختلف المجتمعات في تفسيرها وتحديد مجال عملها تجريدًا وسلوكًا...
وإذا كان قيد الحرية (ذاتيًّا وأخلاقيًّا) قبل كل شيء، فإن الإباحية ليس لقصور في طبيعة الإطلاق، لكن لطبيعة الارتهان بالضرورة للسنن الكونية والطبيعية، التي قدرها الله: نسبية لها – أيضاً- حدود لا يمكن تجاوزها:
فالإباحية لا يمكن- مثلاً - أن تتصور على قدر واحد لدى إنسان الكهوف كما يمكن أن تكون في مجتمع يجوب أفراده الفضاء، ويفيدون من الأقمار الصناعية والفضائيات، ويستعملون الحاسب، ويمارسون لحظياً التواصل وتسويق الأفكار والمنتوجات عبر شبكة عنكبوتية مترامية الأطراف بواسطة الكلمة والشاشة، وتنتقل المعلومة بين أفراده بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهذا يقرر أن الخبرة الإنسانية، والطاقة الجسدية، والإمكانات الماديّة المتوفرة جزء من محدّدات الإباحية.
والإنسان مهما بلغ من ادعاء التمرد والإباحية لا يستطيع أن يخرق قوانين الله التي وضعها في الأرض أو في جسده، يقول تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}، ومن ثمّ فإنّ قدرته على التمرد مهما بلغت، جدّ محدودة؛ لأنها مقيدة بالسنن البيولوجية في جسده وبالسنن الكونية الفيزيائية في الكون من حوله. وحتى حينما يبدو له أنه قادر على خرق هذه السنن في جسده أو في الكون الذي يتقلب فيه، فإن الواقع يقرر أنه محتاج إلى الاعتراف بهذه السنن أولاً، واستخدامها لممارسة ما به يظن أنه يخترقها ويتجاوزها، وهو على الحقيقة يدعمها ويرتهن لها..
كما إن الإنسان شاء أم أبى لا يستطيع مقاومة الصيرورة إلى ملاقاة الله، ولا مناص من ذلك؛ وفي القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية يرغَّب الإنسان عند المصيبة، التي تطيش لها الأحلام في الاعتراف بالعودة إلى الله والعبوديّة الحقيقية له، فيلهج بالقول البليغ الصادق: إنا لله وإنا إليه راجعون {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }، وقال عليه الصلاة والسلام: \"ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها. إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها...\" وهذا يقرر حتمية الرجوع إلى الله، شاء الإنسان أم أبى.
لهذا أستطيع أن أقول: الحرية في الإسلام، والحرية في اليهودية، والحرية في المسيحية، والحرية في الشرق، والحرية في الغرب، ومفهوم الحرية عند \"ميل\"، أو عند \"جون لوك\" أو \"ستيوارت\"، أو عند الفلاسفة العرب، أو عند الفقهاء.. إلخ مستحضرًا في الوقت ذاته اختلاف النظرة إلى هذه الحرية بحسب المنظومة التصورية، التي يزن بها كل فريق الأشياء ويحكمون عليها.
لكن لا أستطيع مثل ذلك مع مصطلح ( الإباحية ) التي تعد هجاء للإنسانية، وهدماً همجياً لمصطلح ( الحرية ) الذي لا يمكن فهمه إلا بتقييده، وليست (الإباحية) كما قد يظن بعض الناس نوعًا يندرج تحته، أو أنه يتسع ليتقاطع أو يتطابق معه. والكلام في هذا متشعب لا تتسع له هذه المقالة.
بقلم:
أحمد بن علي آل مريع